تاريخ
هوس العطر قديم .. والبخور أول طقوسه
نجد لدى العرب من أسماء العطر في معجم لسان العرب الطيب؛ الشذا؛ الرائحة؛ العرف؛ العبق؛ الضوع؛ الفوح؛ الأريج والعبير، وكلها أسماء حاملة لدلالة عطرة، ونجد فيه صورا طيبة منها: الريحان والفاغية والخزامى والغالية والسُّكُّ والزعفران. وفي أوعية الطيب نجد اسم العتيدة لوعاء العطر، واللطيمة وعاء للمسك، وتسمية القشوة لتلك القفَّة التي تجعل فيها المرأة طيبها، والجونة أنية سليلة مستديرة مغشاة أدمًا تكون مع العطارين يعدُّ فيها الطيب. وفي اللسان اللاتني اشتُقت كلمة عطر في اللغة الإنجليزية “perfume” من العبارة اللاتينية، “per” بمعنى “خلال” و”fumus” التي تعني “دخان”، وبعد ذلك أطلق الفرنسيون الاسم “parfum” على الروائح اللطيفة التي تنتقل عبر الهواء من البخور المحترق. وفي التاريخ ارتبط العطر بالدخان، وكان البخور أول أشكال العطر؛ إذ اكتشف قدماء العراقيين في حضارة ما بين النهرين قبل نحو أربعة آلاف سنة البخور لأول مرة. وجرى التقليد عندهم على حرق أنواع من الراتنجِ والأخشاب في مراسيم دينية، كما عرف عنهم فرك أجسامهم بسائل مُعطر يصنعونه من نقع الأخشاب العطرية في خليط من الماء والزيت، ويحضر العطر عندهم كذلك في عملية تحنيط الموتى. واضح إذن أن تاريخ العطر بوجه من الأوجه مرافق لمسار تطور البشرية، فأثره حاضر عند كل الحضارات عبر التاريخ. فلدى المصريين اقتصر استخدام العطور على الطقوس الدينية كالتقرب للآلهة، وتعطير الأموات. وكان تداوله حكرا بين الكهنة والملكات وزوجات الأمراء دون بقية الشعب. وبلغت العطور ذروتها في عهد “كليوباترا” التي بوفاتها تراجع الاهتمام بها كثيرا. حل الفينيقيون محل المصريين في تصنيع العطور، وتولوا نقل هذه الصناعة إلى اليونان الذين أسهموا في تطويرها وابتكروا لكل منطقة في الجسم عطرا خاصا بها. وصلت العناية بالعطر حد الهوس في الحضارة الرومانية التي انتهى بها الأمر حد تعطير الأرضيات والجدران والحيوانات (الخيول، والكلاب…)، وكذا استخدام النوافير التي تخرج الماء المعطر في الحفلات. مهما يكن من أمر الاهتمام ذاك، فالتاريخ يسجل للعرب الريادة في عالم العطور ليس في الجانب اللغوي فقط، ولا حتى في وضع الأمثال التي نذكر منها قولهم: “لا عطر بعد عروس” الذي قالته أسماء بنت عبد الله من قبيلة عذرة بعد موت زوج من بني عمها يدعى “عروس”. وقولهم: “أشأم من عطر مَنْشِم” ومنشم هذه عطارة، يقصدها المحاربون كي يغمسوا أيديهم في طيبها قبل التوجه للمعارك. وإنما في الاشتغال بالعطر صناعة وبحث وتجريب؛ لدرجة أن تلك المعلومات والتفاصيل المتعلقة بأوصاف العطور، ومراكز إنتاجها في شبه الجزيرة العربية التي استهوت المؤرخين والرحالة اليونان والرومان من أمثال هيرودوت، إسترابون، بيلينوس، التي تضمنتها مصنفاتهم. كانت أهم العطور التي يعتمدها العرب في المزج والتركيب هي المسك والعنبر والعود والصندل، وجُلها يُستورد من الهند وبلدان جنوب شرق آسيا والصين. وكان لهم باع في الكتابة عن الموضوع، فهذا ابن النديم صاحب كتاب الفهرست يزودنا بقائمة لبعض المؤلفات العربية عن العطور؛ “كتاب العطر” لإبراهيم بن العباس، “كتاب العطر” للحبيب العطار، “كتاب العطر” للكندي، “كتاب العطر وأجناسه” للمفضل بن سلمة و”كتاب رسالة في كمياء العطر” للكندي. كما أن بعض القدماء أفردوا في مصنفاتهم أبوابا وفصولا للعطر؛ منهم ابن أبي حنيفة الدينوري في كتابه “النبات”، وأبو عثمان الجاحظ في كتابه “التبصرة بالتجارة”، وابن العديم في كتاب “الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب”. ومما جاء في مصنفات العرب في هذا الباب الأصل الثلاثي لصناعة العطور، فهي إما أن تكون نباتية توجد في صورة زيوت، تُستخرج من الأزهار والأوراق والثمار واللحاء والجذور، كما تكون في شكل سوائل كثيفة القوام تفرزها بعض الأشجار أو في هيئة صلبة. وإما حيوانية وتُستخدم أصولا ومواد تثبيت للروائح الأقل والأخف خلال عملية الخلط، وتستخرج غالبا من أعضاء بعض الحيوانات كغزال المسك (الآيل)، وحوت المن (Sperm Whale)، وقط الزباد (Cevet)، وقندس الماء (Beaver/ Cuttle Fish). وإما تصنيعية؛ وعلة ابتكارها عائدة إلى التكاليف المرتفعة للعطور الطبيعية، وقد اشتهرت ألمانيا حديثا بتخليق هذه العطور من مواد كيميائية منها (الكلوروفورم، البنزين، الكحول، وثاني كبريتور الكربون…). ارتبطت ثورة العرب في صناعة العطور باسمين كبيرين في التاريخ العربي هما: جابر بن حيان الذي اكتشف طرقا لفصل المواد الكيميائية مثل التقطير الخالص والتبخير والترشيح، ويعقوب بن إسحاق الكندي الذي عده البعض المؤسس الحقيقي لصناعة العطور؛ فقد أجرى تجارب مكثفة ناجحة لدمج عطور النباتات المختلفة مع مواد وخامات أخرى. وله مخطوط قديم بعنوان “الترفق في العطر” حظي بدراسة وتحقيق سيف بن شاهين بن خلف المريخي (وزارة الثقافة والفنون والتراث قطر/ 2010). يحتوي على عشرة أبواب (صنعة المسك، صنعة العنبر، صنعة الزعفران، صنعة الورس، صنعة الغوالي، باب آخر، الأدهان، عمل الكافور، صنعة السك والرامك، وعمل التصعيدات) أورد فيها الكندي كيفية تحضير ما يبلغ 109 أنواع من الطيب والعطر. وفصل فيه أهم المركبات من الأعشاب والنباتات والحيوانات والمعادن، وطريقة مزجها واستخلاصها.. وما إلى ذلك، ما يجعل المؤلف دليلا علميا وعمليا في العطريات. ارتبط العطر في العصر الحديث بالقارة الأوروبية، فمدينة جراس (Grasse) مركز هذه الصناعة وفرنسا المنتج الأول لأرقى العطور على الصعيد العالمي، ويقع فيها متحف “فراغونار” الوحيد من نوعه في العالم المتخصص في تاريخ العطور، ويضم ثلاثة آلاف تحفة عطرية تروي تاريخ الأدوات المستعملة في صناعة العطور منذ مصر القديمة حتى اليوم. نبقى في أوروبا للإشارة إلى أربعة ملوك كان لهم بالغ الأثر في تطور العطور وهم: فيليب أوغوست وجان لوبون وهنري الثالث ولويس الرابع. كما أن الملك فرانسوا الأول من جهته شجع على مجيء الفنانين والعطارين للإقامة في فرنسا. هذا ولم تظهر كلمة عطر في الوثائق التاريخية حتى 1582، وانتشرت مع دخول عادة استعمال العطور إلى فرنسا أواخر القرن الـ14. وكان إنشاء أول مصنع للعطور في باريس باسم “هو بيغان” سنة 1755. حديثا جدا، كان “فرانسوا كوتي” أول من نجح في خلط العطور الطبيعية مع الصناعية، وقدم أول العطور الحديثة عام 1905 تحت اسم (l’origin)، بعده بعشر سنوات أطلق العطر الشهير “Chypre” أحد منتجات أشهر المجموعات العطرية التي لا تزال قائمة اليوم. منعطف آخر ينتظر هذه الصناعة مع حلول عام 1921 حين أقدمت مصممة الأزياء العالمية غابريال تشانيل (Gabrielle Chanel) على إطلاق منتجها العطري الخاص بها؛ أي الذي يوافق الأزياء التي تصممها ويكمل أناقتها، والذي كان من ابتكار إيرنيست بو (Ernest Beaux) وقد أطلقت عليه اسم تشانيل 5 لأنه كان الخامس في مجموعة العطور التي قدمها الرجل في سلسلة عطور تشانيل. ختاما لا تنسى وأنت داخل محال الماركات العالمية للعطر، بحثا عن عطرك المميز أفضال أجدادك على العطور، وبصمتهم الخالدة فيها، ولا تنسى أيضا قول نزار قباني “والرجل أيضا، يلعب لعبته في تقييم العطر.. بمعنى أن أنف الرجل مرتبط بثقافته، وتجربته، ومستواه الحضاري”. وقبل قال الشاعر عبد الرحمن بن الحكم أبي العاص في مشمولات الجمال لدى المرأة: “هيفاء فيها إذا استقبلتها عجف/ عجزاء غامضة الكعبين معطار، من الأوانس مثل الشمس لم يرها/ بساحة الدار لا بعل ولا جار”.